November 25, 2007

ولادة عقول الحواسيب

ولادة عقول الحواسيب: كيف بزغت أنظمة التشغيل؟

مجلة العربي (الكويت)، نوفمبر 2005 [العنوان المنشور للمقال: ولادة عقول الكمبيوتر]

مع الانتشار غير المحدود للحواسيب، مهم أن نتعرف على تلك البرامج المخبوءة التي تحول الماكينات الساكنة إلى حواسيب هائلة الإمكانيات؛ ونقصد أنظمة التشغيل وأشهرها ويندوز ولينوكس.

ونظام التشغيل برنامج يدير ويتحكم في المكونات المادية للحاسوب (العتاد الحاسوبي hardware). هذا إضافة إلى تيسير التفاعل بين مستخدم الحاسوب والبرامج العاملة على نظام التشغيل ذلك، كبرامج معالجة النصوص (مثل "ورد" Word) أو متصفحات الإنترنت أو مشغلات الموسيقى والأفلام. ونستطيع القول أنه بإضافة المعطيات البشرية لمستخدم الحاسوب إلى نظام التشغيل، فإن هذين العنصرين يكونان معا العقل لذلك الحاسوب، ويكون جسمه هو العتاد؛ المُكوّن من معالج (processor) وشاشة ولوحة مركزية وقرص التخزين الصلب وغيرها من المكونات.

وكلمة "برنامج" تعني في لغة الحواسيب مجموعة من الأوامر التي يصممها أو يكتبها مبرمج. ويتوقف عدد الأوامر على الوظيفة التي يقوم بها البرنامج. فمثلا، برنامج معالجة النصوص يحوي بالطبع عددا أكبر من الأوامر الموجودة في برنامج لضبط الوقت. وببساطة، لكل برنامج واجهتان: واحدة تتعامل مع نظام التشغيل أو مع المكونات المادية للحاسوب، وأخرى يتعامل معها مستخدم الحاسوب.

وأكثر أنظمة التشغيل شيوعا هو "ويندوز" الذي طورته شركة مايكروسوفت؛ أكبر شركة برمجيات في العالم، ويعمل على حوالي 94% من الحواسيب الشخصية على الأرض. ويأتي بعده نظام تشغيل لينوكس ويعمل على حوالي 3-4%. ثم ماك أو إس-إكس من شركة آبل للحواسيب والذي يعمل على حوالي 2-3% من الحواسيب عالميا. أما في مجال الحواسيب الخادمة في الشركات (servers)، وهي أسرع من نظائرها الشخصية في معالجة البيانات والسعة التخزينية، فيستحوذ ويندوز على حوالي 53%، وبعده لينوكس بحوالي 23%، أما النسبة الباقية فتتقاسمها أنظمة تشغيل سولاريس (وطورته شركة صن مايكروسيستمز) ويونكس وأنظمة أقل شهرة مثل نظام بيركلي الحر (FreeBSD). وهذه التقديرات جميعها وفقا لعام 2004. (راجع مقال "تايتانك بلا قرصنة" الملحق العلمي يوليو/تموز 2005 حول المصدر المفتوح ولينوكس)

قبل أنظمة التشغيل، كان على كل مستخدم للحاسوب أن يحمل البرنامج الذي سيستخدمه بنفسه، ثم يزيله بعد ذلك ليتيح الفرصة لمستخدمين آخرين. وكان ذلك يستدعي في كثير من الأحيان أن يُعاد توصيل المكونات المادية للحاسوب بصورة مختلفة لتلائم وظائف كل برنامج على حدة.

بدايات عديدة

وثمة عدة بدايات للتأريخ لأنظمة التشغيل. لعل أكثرها اتصالا بخط التطور الذي استمر بعد ذلك هي لحظة تطوير الدكتور جاري كيندول لنظام تشغيل سي بي/إم (CP/M) من شركة ديجيتال ريسيرش في السبعينيات الذي حقق نجاحا كبيرا بمقاييس تلك الأيام؛ إذ بيعت منه حوالي 600 ألف نسخة. أغرى ذلك شركة آي.بي.إم (IBM) للدخول في ذلك المضمار. وكانت قد بدأت بالفعل في إنتاج الحواسيب منذ أوائل الخمسينيات، ولكن بغير نظام تشغيل.

بحثت آي.بي.إم عن شركة تطور نظام تشغيل ليتم دمجه في حواسيبها ويحمل علامتها التجارية. وقاد البحث إلى اللقاء بشركة صغيرة ناشئة اسمها مايكروسوفت أسسها المبرمجان الشابان بيل جيتس وبول ألان، وكان منتَج الشركة حتى ذلك الوقت مجرد نسخة من لغة البرمجة "بيسك" (BASIC) متوافقة وداعمة لحاسوب ألتير الذي طوره المهندس الفذ "إد روبرتس". لم يكن منتج مايكروسوفت نظام تشغيل، ولكن مؤسسي الشركة أقنعا آي.بي.إم أنهما سيتمكنان من الاتفاق مع كيندول لترخيص استخدام نظام التشغيل الذي طوره للعمل على حواسيب آي.بي.إم. ولكن هذا الاتفاق لم يتم نتيجة كثرة مطالب زوجة كيندول (!) فأقنعت مايكروسوفت آي.بي.إم بأنها ستجد حلا لذلك. فقامت بشراء حقوق استخدام نظام تشغيل اسمه كيو/دوس (Q/DOS) من شركة سياتل لمنتجات الحواسيب مقابل 50 ألف دولار، وغيرت اسمه إلى "بي سي دوس" (PC DOS). وظهر أول حاسوب شخصي من آي.بي.إم، واسمه أكورن، محملا ب"بي سي دوس" عام 1981. ولم تكن واجهة نظام التشغيل أكثر من شاشة عليها خطوط من النصوص. وليؤدي المستخدم ما يريد عليه أن يكتب الأوامر في صورة نصوص أيضا. ولم يكن بالإمكان أداء أكثر من وظيفة آنياً.

ولكن آبي.بي.إم سرعان ما رغبت في الاستئثار لنفسها بالكعكة كاملة: المكونات المادية ونظام التشغيل. فبدأت في تطوير نظام تشغيل آخر هو أو إس 2 بعيدا عن شراكتها مع مايكروسوفت. وفي ذات الوقت، كانت الأخيرة قد بدأت تطلب من الشركات التي تشتري ترخيص تحميل نظام "دوس" على حواسيبها، مثل آي.بي.إم وكومباك، أن لا تغير اسمه. فيظل "مايكروسوفت دوس" (MS DOS) أيا كان منتِج الحاسوب. أدى هذان العاملان إلى انفصام الشراكة التي جمعت بين آي.بي.إم ومايكروسوفت. وكان ذلك عام 1984.

آبل وواجهة المستخدم المبتكرة

في ذات العام، 1984، طرحت شركة آبل جهاز "ماكنتوش"؛ وهو حاسوب يأتي محملا بنظام تشغيله. وكان نظام التشغيل ذاك جديدا في نوعه. إذ كان يستخدم للمرة الأولى أسلوب واجهة المستخدم الجرافيكية أو المطبوعة (GUI) التي تتيح للمستخدمين أن يتعاملوا مع الحاسوب باستخدام الفأرة (التي اخترعها عام 1964 العالم دوجلاس إنجلبارت) والأيقونات. كما أتاح ماكنتوش إجراء أكثر من وظيفة بصورة آنية، وإن كان ذلك بصورة بدائية. والمفارقة هنا أن أسلوب واجهة المستخدم الجرافيكية والذي بسط بصورة فارقة من استخدام الحواسيب لم يكن من بنات أفكار مطوري الشركة، وإنما اخترعه باحثو شركة "زيروكس" الأمريكية. ولكن أحد هؤلاء الباحثين دعا ستيف جوبز، أحد مؤسسي آبل، إلى زيارة مختبر الشركة البحثي الشهير في كاليفورنيا أواخر عام 1979 متفاخرا بإنجازات شركته (!). وما إن عاد جوبز من هذه الزيارة حتى طلب من مهندسي شركته أن يعكفوا على تطوير نظام مماثل لواجهة المستخدم، وقد كان ذلك أحد أسباب نجاح الشركة التي أسست عام 1976. وكانت آبل قد طرحت إصدارين من الحواسيب في النصف الثاني من السبعينيات ولكنهما أخفقا تجارياً.

بظهور "ماكنتوش" أدرك بيل جيتس أن المستقبل سيكون من حظ هذه الفئة الجديدة من أنظمة التشغيل ذات الواجهات الجذابة والبسيطة. فطرحت مايكروسوفت عام 1985 الإصدار الأول لنظام تشغيل "ويندوز". وكما يشير اسم الإصدار (والذي يعني "نوافذ" باللغة العربية) فإن النظام الجديد يتيح أداء أكثر من وظيفة بصورة آنية عبر تشغيل أكثر من برنامج، كل في نافذة منفصلة.

ولاحقت آبل مايكروسوفت في المحاكم بدعوى تقليد نظام ماكنتوش، ولكن رُفضت الدعوى. وواصلت مايكروسوفت تطوير "ويندوز" بنجاح هائل، فأصدرت عام 1990 الإصدار الثالث (Windows 3.0) وفي أغسطس 1995 إصدار ويندوز 95 بضجة إعلانية مهولة، ثم ويندوز 98 عام 1998، ثم إصداري 2000 والألفية (ME) عام 2000، ثم إصدار إكس بي (XP) الحالي عام 2001. ويُنتظر أن تطرح الشركة الإصدار القادم والذي يحمل اسم "لونج هورن" بنهاية عام 2006.

أما في آبل، فقد أرغمت الشركة ستيف جوبز على الاستقالة منها عام 1986، ثم تعثرت لسنوات عدة إلى أن دعي جوبز لقيادتها مرة أخرى عام 1997 فسارع بتطوير جيل جديد من نظام التشغيل هو ماك أو إس إكس يعتمد على نظام تشغيل بيركلي (BSD) وطرح إصداره الأول عام 2001. ثم أتبعه بأربعة تحديثات كان آخرها تايجر في أبريل الماضي. وقد وصف بيل جوي، أحد أساطين البرمجة الأوائل في جامعة كاليفورنيا والعالم الرئيس سابقا بشركة صن، وصف نظام أو إس إكس بأنه أفضل نظام تشغيل على وجه الأرض حاليا.

لينوكس للجميع

وفي حلبة المنافسة، هناك أيضا نظام "لينوكس" الذي يختلف أسلوب تطويره جذريا عن سابقيه. فبينما يتم إخفاء الشيفرة التي كتب بها كل من نظامي تشغيل ويندوز وماك، فإن شيفرة لينوكس متاحة للجميع ليطوروها ويغيروها ويبنوا عليها. فنظام لينوكس ثمرة جهود تطوعية لآلاف المبرمجين من حول العالم. وقوة لينوكس حتى الآن جلية في الحواسيب الخادمة أكثر من الحواسيب الشخصية، وإن كان مطوروه يأملون أنه بطرح إصدار ويندوز "لونج هورن"، وما يتبع ذلك من تكاليف إضافية لشراء النظام وتحديث المكونات المادية، فربما يرى المستخدمون لينوكس المجاني بديلا أكثر جاذبية.

وكان نظام تشغيل ويندوز إكس بي قد تعرض لانتقادات شديدة نتيجة الثغرات الأمنية التي مكنت قراصنة الحواسيب من تدمير أو تعطيل ملايين الحواسيب المرتبطة بشبكة الإنترنت بالفيروسات وبرامج التجسس وغيرها من برامج القرصنة خلال السنوات القليلة الماضية. بينما لم يتعرض مستخدمو أنظمة التشغيل الأخرى، مثل لينوكس وماك، لهذه المشكلات. وربما يعود ذلك لعاملين: أولا أن انعدام المنافسة تقريبا أمام ويندوز في حلبة الحواسيب الشخصية قد جعل مايكروسوفت أقل انتباها للتدقيق في خلو منتجاتها من الثغرات الأمنية. وثانيا أن الانتشار المحدود نسبيا لنظامي لينوكس وماك لا يمثل إغراء لقراصنة الحواسيب ليصمموا فيروسات خصيصا لهما، بالمقارنة بويندوز هائل الانتشار.

ويُعزى قسط من نجاح "ويندوز" الكبير إلى السياسة التي انتهجتها مايكرسوفت بترخيص نظام تشغيلها لعدد كبير من مصنعي الحواسيب (مثل دِل وهيوليت باكارد وإيسر، بل وآي.بي.إم نفسها)، بحيث يعمل نظام التشغيل على شتى أنواع الحواسيب (ومؤخرا الهواتف النقالة وحواسيب الجيب أيضا). وينتهج نفس السياسة مطورو نظام لينوكس في توفيقه للعمل مع شتى أنواع الحواسيب. أما شركة آبل فتصر أن يعمل نظام تشغيلها على حواسيب آبل فحسب.

وليد الشوبكي